فصل: تفسير الآية رقم (19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



كَذَلِكَ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَأَفْضَلَهُمْ أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِنَفْيِ مِلْكِهِ لِضُرِّ النَّاسِ وَنَفْعِهِمْ وَهُوَ حَيٌّ كَمَا يَأْتِي فِي الْآيَةِ (49) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَسَبَقَ مِثْلُهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ (7: 188).
{وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} أَيْ يَقُولُونَ فِي سَبَبِ عِبَادَتِهِمْ لَهُمْ، مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ بِأَنْفُسِهِمْ لِإِيمَانِهِمْ بِأَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ هُوَ اللهُ تَعَالَى: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} فَنَحْنُ نَعْبُدُهُمْ بِتَعْظِيمِ هَيَاكِلِهِمْ وَتَطْيِيبِهَا بِالْعِطْرِ وَالطَّوَافِ بِهَا وَبِتَقْدِيمِ النُّذُورِ لَهُمْ، وَالْإِهْلَالِ عِنْدَ ذَبْحِ الْقَرَابِينِ بِأَسْمَائِهِمْ، وَبِدُعَائِهِمْ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ يُقَرِّبُونَنَا إِلَيْهِ زُلْفَى فَيَدْفَعُ بِجَاهِهِمْ عَنَّا الْبَلَاءَ، وَيُعْطِينَا مَا نَطْلُبُ مِنَ النَّعْمَاءِ، هَذَا مَا يَقُولُهُ مُنْكِرُو الْبَعْثِ مِنْهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَ اللهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ. عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا فَرَضُوا وُجُوَدَهَا، زَعَمَ مُجْرِمُوهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِيهَا كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا، كَمَا حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} (34: 35) وَقَوْلِهِ فِي الْإِنْسَانِ الْكَافِرِ: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} (41: 50) وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ مِنْ كِبَارِ مُجْرِمِيهِمْ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ شَفَعَتْ لِيَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَعْبُودِيهِمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ فِيهَا كَمَا يَشْفَعُونَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ أَسَاسَ عَقِيدَةِ الشِّرْكِ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَطْلُبُونَهُ مِنَ اللهِ لابد أَنْ يَكُونَ بِوَسَاطَةِ الْمُقَرِّبِينَ عِنْدَهُ لِأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمُ الْقُرْبُ مِنَ اللهِ وَالْحُظْوَةُ عِنْدَهُ بِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ مُدَنَّسَةٌ بِالْمَعَاصِي، بِخِلَافِ دِينِ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ عَلَى الْعَاصِي أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ تَائِبًا إِلَيْهِ طَالِبًا مَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ.
{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ جَهَالَتَهُمْ وَافْتِرَاءَهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ: أَتُخَبِّرُونَ اللهَ تَعَالَى وَتُعْلِمُونَهُ بِشَيْءٍ لَا يَعْلَمُهُ مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الشُّفَعَاءِ فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَلَا فِي الْأَرْضِ مِنْ خَوَاصِّ خَلْقِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمَا شُفَعَاءُ يَشْفَعُونَ لَكُمْ عِنْدَهُ لَكَانَ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْكُمْ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ مَنْ لَهُمْ مِنَ الْمَكَانَةِ عِنْدَهُ أَنْ جَعْلَهُمْ وُسَطَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي قَضَاءِ حَاجِهِمْ مِنْ نَفْعٍ وَضُرٍّ، وَفِي تَقْرِيبِهِمْ إِلَيْهِ زُلْفَى كَالْوُسَطَاءِ عِنْدَ مُلُوكِ الْبَشَرِ، الْجَاهِلِينَ بِأُمُورِ رَعِيَّتِهِمْ وَالْعَاجِزِينَ عَنْ تَنْفِيذِ مَشِيئَتِهِمْ فِيهِمْ بِدُونِ وَسَاطَةِ الْوُزَرَاءِ وَالْحُجَّابِ وَالْقُوَّادِ، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أَيْ تَنْزِيهًا لَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا عَمَّا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الشُّفَعَاءِ وَالْوُسَطَاءِ. وَمَا يَفْتَرُونَهُ عَلَيْهِ بِجَعْلِهِمْ هَذَا دِينًا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ. فَهَذَا تَذْيِيلٌ لِلْجَوَابِ مُبَيِّنٌ لِمَا فِي هَذَا الشِّرْكِ مِنْ إِهَانَةِ مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، وَتَشْبِيهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بِعَبِيدِهِ مِنَ الْمُلُوكِ الْجَاهِلِينَ الْعَاجِزِينَ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ {تُشْرِكُونَ} بِتَاءِ الْخِطَابِ، عَلَى أَنَّهُ تَتِمَّةٌ لِلْجَوَابِ. وَحِكْمَةُ الْقِرَاءَتَيْنِ تَنْزِيهُهُ تَعَالَى عَنْ شِرْكِ الْجَمِيعِ مِنْ غَائِبٍ مَحْكِيٍّ عَنْهُ وَحَاضِرٍ مُخَاطَبٍ.
وَفِي هَذَا الْجَوَابِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ أَنَّ شُئُونَ الرَّبِّ وَسَائِرَ مَا فِي عَالَمِ الْغَيْبِ تَوْقِيفِيٌّ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِخَبَرِ الْوَحْيِ، وَمِنْهُ اتِّخَاذُ الْوُسَطَاءِ عِنْدَ اللهِ مِمَّا ذُكِرَ وَأَنَّهُ عَيْنُ الشِّرْكِ. وَلَكِنَّ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ مَنْ يُثْبِتُونَ هَذِهِ الْوَسَاطَةَ بِالرَّأْيِ. وَيُحَرِّفُونَ مَا يَنْقُضُهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا كَأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُبِيحُونَ دُعَاءَ الْمَوْتَى وَاسْتِغَاثَتَهُمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ. وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِيهِمْ، وَبِأَنَّ الْإِفْرِنْجَ أَثْبَتُوا وُجُودَ الْأَرْوَاحِ وَعَلَاقَتَهَا بِالنَّاسِ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِهَذَا مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَهُمْ أَقَلُّهُمْ، لَمْ يَقُولُوا إِنَّهَا تَنْفَعُهُمْ وَتَضُرُّهُمْ، أَوْ تَشْفَعُ عِنْدَ اللهِ لَهُمْ، وَلَوْ قَالُوا هَذَا لَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ قَوْلَهُمْ حُجَّةً نُعَارِضُ بِهَا نُصُوصَ دِينِنَا أَوْ نَتَأَوَّلُهَا لِتُوَافِقِهَا، وَلِمَشْيَخَةِ الْأَزْهَرِ الرَّسْمِيَّةِ مَجَلَّةٌ تَنْشُرُ بِاسْمِهَا هَذِهِ الْبِدَعُ وَالْخُرَافَاتُ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَطْعَنُ عَلَى الْمُعْتَصِمِينَ بِالسُّنَّةِ وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ وَعَلَى الْمُعْتَصِمِينَ بِالْقُرْآنِ أَيْضًا وَهُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ، لِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ هُوَ أَخْذُ الدِّينِ كُلِّهِ عَنْ كُتُبِ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، حَتَّى الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ دُونَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ}
قوله تعالى: {مَا لاَ يَضُرُّهُمْ}: {ما} موصولة، أو نكرةٌ موصوفةٌ وهي واقعةٌ على الأصنام، ولذلك راعى لفظها، فأفرد في قوله: {مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} ومعناها فجمع في قوله: {هؤلاء شفعاؤنا}.
قوله: {أَتُنَبِّئُونَ} قرأ بعضهم: {أتُنْبِئون} مخففًا مِنْ أنبأ، يقال: أنبأ ونبَّأ كأخبرَ وخبَّر. وقوله: {بِمَا لاَ يَعْلَمُ} ما موصولةٌ بمعنى الذي أو نكرة موصوفة كالتي تقدمت. وعلى كلا التقديرين فالعائد محذوف، أي: يعلمه. والفاعل هو ضمير الباري تعالى، والمعنى: أتنبِّئوون الله بالذي لا يعلمه الله، وإذا لم يعلم الله شيئًا استحال وجودُ ذلك الشيء، لأنه تعالى لا يَعْزُب عن علمه شيء، وذلك الشيء هو الشفاعة، فما عبارة عن الشفاعة.
والمعنى: أن الشفاعةَ لو كانَتْ لَعَلِمَهَا الباري تعالى. وقوله: {فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} تأكيدٌ لنفيه، لأنَّ كل موجود لا يَخْرج عنهما. ويجوزُ أن تكونَ ما عبارةً عن الأصنام. وفاعل {يعلمُ} ضميرٌ عائد عليها. والمعنى: أَتُعَلِّمون اللَّهَ بالأصنامِ التي لا تَعْلَم شيئًا في السموات ولا في الأرض، وإذا ثَبَتَ أنها لا تعلم فكيف تشفع؟ والشافع لابد وأن يعرفَ المشفوعَ عنده، والمشفوعَ له، هكذا أعربه الشيخ، فجعل ما عبارة عن الأصنام لا عن الشفاعة، والأول أظهر. وما في {عَمَّا يشركون} يُحتمل أن تكونَ بمعنى الذي، أي: عن شركائهم الذي يُشْركونهم به في العبادة. أو مصدريةٌ، أي: عن إشراكهم به غيره.
وقرأ الأخَوان هنا {عَمَّا يُشْركون}، وفي النحل موضعين، الأول: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الملائكة} [الآية: 1]، والثاني: {بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الآية: 3]. وفي الروم: {هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الآية: 40] بالخطاب. والباقون بالغَيْبة في الجميع. والخطاب والغيبة واضحتان.
وأتى هنا بـ {يُشْركون} مضارعًا دون الماضي تنبيهًا على استمرار حالِهم كما جاؤوا يعبدون، وتنبيهًا أيضًا على أنَّهم على الشرك في المستقبل، كما كانوا عليه في الماضي. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم}
وقال في الأنبياء: {قال أتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم} وقال في سورة الفرقان: {ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم} فقدم في سورة يونس ما أخر في سورة الأنبياء والفرقان فيسأل عن ذلك؟
والجواب عنه- والله أعلم- ان الموجب لتأخير {ولا ينفعهم} في سورة يونس ما وصل به من قولهم: {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} فكأن قد قيل: ويعدبون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويزعمون أن ذلك ينفعهم لوم يكن ليناسب لو قيل: {ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} تناسب الوارد من متصل قوله: {ولا ينفعهم} بقوله: {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} فلما كان الاتصال فيما ذكر أنسب وردت الآية بحسب ذلك.
أما آية الفرقان فإن قبلها ذكر دلائل وشواهد من مصنوعاته تعالى يهتدى المعتبر بالنظر فيها تخلصه من ورطات الشكوك ويستقيم له دينه وذلم أعظم النفع وأجله وقال تعالى: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل} إلى قوله: {وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان بك قديرا} فلما تقدم التنبيه بهذه الآيات الواضحات الموقظات من سنات الغفلات والمحصلات أعظم النفع في امتثال الواجبات والنجاة من الضلالات ناسبها تقديم ما قدم في الآية من قوله: {ويعبدون من دون الله ما لا يتفعهم ولا يضرهم} وصار الكلام بقوته مجاوبا لقوله: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} وورد كل على ما يجب والله أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}
ذَمَّهُم على عبادة ما ليس منه ضَرٌّ ولا نَفَعٌ.
فدليلُ الخطاب يقتضي أَنْ يكونَ المعبودُ منه الضَّرُ والنفع، ومِنْ فَرْطِ غباوتهم أنهم انتظروا في المآلِ الشفاعةَ ممن لا يوجَدُ منه الضَّرُّ والنَّفْعُ في الحال، ثم أخبر أنهم يخبرون عما ليس على الوجه الذي قالوا معلومًا، ولو كان كما قالوا لَعلِموا أنه سبحانه لا يَعْزُبُ عن علمه معلومُ.
ومعنى قوله: {لاَ يَعْلَمُ}: خلافه. ومَنْ تَعَلَّقَ قلبُه بالمخلوقين في استدفاع المضَارِّ واستجلاب المسَارِّ فكالسالِك سبيلَ مَنْ عَبَدَ الأصنام؛ إذ المنْشِئُ والموجِدُ للشئِ مِنَ العَدم هو الله- سبحانه. اهـ.

.تفسير الآية رقم (19):

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بين شرارتهم بعبادة غير الله وختم بتنزيهه وكماله، بين أن هذا الدين الباطل حادث، وين نزاهته وكماله ببيان أن الناس كانوا أولًا مجتمعين على طاعته ثم خالفوا أمره فلم يقطع إحسانه إليهم بل استمر في إمهالهم مع تماديهم في سوء أعمالهم ما سبق في عمله ومضى به قضاءه فقال تعالى: {وما كان الناس} أي كلهم مع ما لهم من الاضطراب {إلا أُمة} ولما أفهم ذلك وحدتهم في القصد حققه وأكده فقال: {واحدة} أي حنفاء متفقين على طاعة الله: {فاختلفوا} في ذلك على عهد نوح عليه السلام- كما روي عن ابن عباس- رضى الله عنهما-- عقب وحدتهم بسبب ما لهم من النوس فاستحق كافرهم تنجيز العقاب {ولولا كلمة} أي عظيمة {سبقت} أي في الأزل {من ربك} أي المحسن إليك برحمة أمتك بإمهالهم، وبين التأكيد بما دل على القسم لأجل إنكارهم أن يكون تأخيرهم لأجل ذلك فقال: {لقضي بينهم} أي عاجلًا بأيسر أمر {فيما} ولما لم يبين الكلام على الاتخاذ الذي محط أمره معالجة بالباطن، لم يذكر الضمير بخلاف الزمر فقال: {فيه} أي لا في غيره بأن يعجل جزاءهم عليه: {يختلفون} وأشار ذلك إلى أن هذا الأمر الذي دعوا إليه ليس أمرًا طارئًا حادثًا فيكون بحيث يتوقف فيه للنظر في عواقبه والتأمل في مصادره وموارده، بل هو- مع ظهور دلائله واستقامة مناهجه وصحة مذاهبه وإلقاء الفطر أزمة الانقياد إليه- أصل ما كان العباد عليه، وما هم فيه الآن هو الطارئ الحادث مع ظهور فساده ووضوح سقمه، وهو ناظر إلى قوله تعالى: {أكان للناس عجبًا} لأن قوله: {قال الكافرون إن هذا لسحر مبين} دال على أنهم قسمان: كافر ومؤمن؛ والأمة: الجماعة على معنى واحد في خلق واحد كأنها تؤم- أي تقصد- شيئًا واحدًا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا}
اعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة القاهرة على فساد القول بعبادة الأصنام، بين السبب في كيفية حدوث هذا المذهب الفاسد، والمقالة الباطلة، فقال: {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} واعلم أن ظاهر قوله: {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} لا يدل على أنهم أمة واحدة فيماذا؟ وفيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنهم كانوا جميعًا على الدين الحق، وهو دين الإسلام، واحتجوا عليه بأمور: الأول: أن المقصود من هذه الآيات بيان كون الكفر باطلًا، وتزييف طريق عبادة الأصنام، وتقرير أن الإسلام هو الدين الفاضل، فوجب أن يكون المراد من قوله: {كَانَ الناس أُمَّةً واحدة} هو أنهم كانوا أمة واحدة، إما في الإسلام وإما في الكفر، ولا يجوز أن يقال إنهم كانوا أمة واحدة في الكفر.
فبقي أنهم كانوا أمة واحدة في الإسلام، إنما قلنا إنه لا يجوز أن يقال إنهم كانوا أمة واحدة في الكفر لوجوه: الأول: قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] وشهيد الله لابد وأن يكون مؤمنًا عدلًا.
فثبت أنه ما خلت أمة من الأمم إلا وفيهم مؤمن.
الثاني: أن الأحاديث وردت بأن الأرض لا تخلو عمن يعبد الله تعالى، وعن أقوام بهم يمطر أهل الأرض وبهم يرزقون.
الثالث: أنه لما كانت الحكمة الأصلية في الخلق هو العبودية، فيبعد خلو أهل الأرض بالكلية عن هذا المقصود.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقية من أهل الكتاب» وهذا يدل على قوم تمسكوا بالإيمان قبل مجيء الرسول عليه الصلاة والسلام، فكيف يقال إنهم كانوا أمة واحدة في الكفر؟ وإذا ثبت أن الناس كانوا أمة واحدة إما في الكفر وإما في الإيمان، وأنهم ما كانوا أمة واحدة في الكفر، ثبت أنهم كانوا أمة واحدة في الإيمان، ثم اختلف القائلون بهذا القول أنهم متى كانوا كذلك؟ فقال ابن عباس ومجاهد كانوا على دين الإسلام في عهد آدم وفي عهد ولده، واختلفوا عند قتل أحد ابنيه الابن الثاني، وقال قوم: إنهم بقوا على دين الإسلام إلى زمن نوح، وكانوا عشرة قرون.
ثم اختلفوا على عهد نوح.
فبعث الله تعالى إليهم نوحًا.
وقال آخرون: كانوا على دين الإسلام في زمن نوح بعد الغرق، إلى أن ظهر الكفر فيهم.
وقال آخرون: كانوا على دين الإسلام من عهد إبراهيم عليه السلام إلى أن غيره عمرو بن لحي، وهذا القائل قال: المراد من الناس في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} فاختلفوا العرب خاصة.